الكل منا يعلم ما للفساد من آثار وخيمة على الصعد كافة أكانت سياسية أو اقتصادية أو حتى اجتماعية، ولكن القليل منا يدرك ماهية إجراءات الملاحقة الجزائية لأفعال الفساد باعتبارها جرائم وفقا للتشريعات الجزائية السارية.
إن جرائم الفساد ليست كباقي الجرائم الأخرى؛ فلها مدلول تشريعي خاص، وآخر فني، حيث أن المشرع أوجد أحكاما مستحدثة في قانون الجرائم الاقتصادية أو في قانون النزاهة ومكافحة الفساد، علاوة على الأحكام الواردة في قانون العقوبات باعتباره الشريعة العامة للتجريم وقانون أصول المحاكمات الجزائية باعتباره القانون الإجرائي للملاحقة الجزائية.
وحيث أن الرأي العام انشغل في الآونة الاخيرة بقضايا الفساد التي فصلت فيها الهيئات القضائية لدى المحاكم الأردنية، فلا بد من الإشارة إلى المراحل التي مرت بها تلك القضايا منذ أن كانت معلومة أو ورقة أو أخبارا وحتى أصبحت ملفا أو مجموعة من الملفات تحت ولاية الهيئة القضائية.
ولأن جرائم الفساد تمتاز بطبيعة فنية خاصة اكتسبتها من طبيعة الجاني و الأدوات الجرمية التي يتم استخدامها في الجريمة، فلا بد من وجود ضابطة عدلية تساعد النيابة العامة في ملاحقة الجناة، وهذه الضابطة العدلية تتمثل في الكادر التحقيقي والفني في هيئة النزاهة ومكافحة الفساد الذين يُمنحون صفة الضابطة العدلية بقرار من مجلس الهيئة الذي يتمتع بهذه الصفة بموجب قانون النزاهة ومكافحة الفساد. ولا شك أن المعلومة أو الشكوى أو الاخبار، لو قدر أن تذهب للنيابة العامة مباشرة لما استطاعت أن تصمد قضايا الفساد في المحاكم وذلك ب?بب الحاجة للخبرات الفنية في هذا الإطار التي لا تملكها النيابة العامة بطبيعتها.
ومن أجل إنشاء ملف تحقيق مكتمل الأركان يستطيع الصمود أمام مرحلة المحاكمة فإن الضابطة العدلية في هيئة النزاهة ومكافحة الفساد تبدأ باستقبال المعلومة والسير بإجراءات التحري والاستدلال للبتّ ابتداء فيما إذا كانت تلك المعلومات تشكل جرما يدخل في الاختصاص النوعي للهيئة، وهذا ما يسمى مرحلة الفرز الذي يقوم به قسم معني بذلك.
من هنا تبدأ مرحلة التحقيق الأولي بقرار من مجلس الهيئة، وهذا يحتاج إجراءات تحت مظلة المشروعية القانونية التي قد تحوي في طياتها سماع الإفادة والقبض والتفتيش والتحري وغيرها من الإجراءات المنصوص عليها في قانون أصول المحاكمات الجزائية. إضافة إلى ضمانات قانونية وفرها المشرع بموجب التشريعات المنظمة لعمل الهيئة تتمثل في حماية المبلغين والشهود والخبراء والمخبرين. وهذا بحد ذاته إضافة نوعية لمرحلة التحقيق الأولي لا تتوافر في ملاحقة بقية الجرائم الأخرى.
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فإذا احتاج ملف التحقيق خبرات فنية؛ يحال إلى خبراء في الهيئة بمختلف التخصصات الفنية، مهمتهم الأساسية إبداء الرأي الفني لمساعدة المحققين بإجراء التنسيبات المناسبة في الملف التحقيقي.
ولشخصية المشتكي في الملف التحقيقي أثر واضح؛ فلو كان المشتكي مستثمرا على سبيل المثال، يحال الملف إلى وحدات الاستثمار في الهيئة لإبداء الرأي القانوني في ذلك بعد مخاطبة الجهات ذات العلاقة. وقد تشتبك الدوائر الأخرى في الهيئة بالملف التحقيقي، فإذا كان له شق إداري أو تأثير على منظومة النزاهة والوقاية فيتم إبراز دور الدوائر المعنية بذلك الرأي الخاص بذلك الملف. وبالنهاية يرسَل ذلك الملف التحقيقي لمجلس الهيئة لاتخاذ القرار المناسب باعتباره مجلس حاكمية يتمتع بصفة الضابطة العدلية للتصرف بالملف بما فيه إحالته ل?نيابة العامة إذا كان الفعل يشكل جرما وفقا للاختصاص النوعي للهيئة. من هنا نرى بأن قضايا الفساد التي نراها أمام الهيئات القضائية يقف خلفها جنود مجهولون أشبعوها بحثا وتحريا ودعموها بالأدلة والبراهين والخبرة الفنية جعلت منها ملفات صامدة تحوي عنصرَي الردع والوقاية في آن واحد، فلهؤلاء الكوادر المتفانية كل الاحترام والتقدير.
الرأي